حوار مع الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل

أجراه الأخ : الأستاذ محمد رشدي عبيد

رئيس تحرير مجلة ( الإيمان ) الأربيلية

أرجو أن تعرّفوا القارئ ببطاقتكم الشخصية ...

من مواليد الموصل عام 1941 م ، أكملت دراستي الأوّلية في مدارسها ، ثم انتقلت إلى بغداد للحصول على شهادة البكالوريوس في التاريخ من كلية التربية في جامعة بغداد عام 1962 م وواصلت دراستي هناك للماجستير في معهد الدراسات العليا في الجامعة نفسها ، فحصلت عليها عام 1965 م ومنها تحوّلت إلى جامعة عين شمس في القاهرة للحصول على الدكتوراه التي منحتها بدرجة الشرف الأولى عام 1968 م.

عملت تدريسياً في كلية آداب جامعة الموصل للأعوام 1966 – 1977 م ثم نقلت إلى متحف الموصل الحضاري لأتولى فيه رئاسة قسم التراث للأعوام 1977 – 1987 م حيث عدت إلى كلية آداب جامعة صلاح الدين في أربيل ، وحصلت فيها على الأستاذية ، وعملت فيها للأعوام 1987 – 1992 م حيث عدت إلى كلية التربية في جامعة الموصل حتى عام 2000 م عندما قدمت استقالتي وعملت خارج العراق لمدة سنتين وعدت لكي ارتبط بكلية آداب جامعة الموصل ، ولا أزال أعمل فيها بصفة استاذ متمرّس.

ما هو تخصصك الدقيق في التاريخ ؟ وماذا كانت إضافتك لهذا العلم باختصار ؟

تخصّصي الدقيق هو ( العصور العباسية المتأخرة ) ، أما إضافتي فتتمثل ببضع وعشرين مؤلفاً تناولت فيها فلسفة التاريخ ، ومنهج البحث فيه ، وشروط إعادة كتابته ، والتأصيل الإسلامي له ، فضلاً عن جملة من المؤلفات التي عالجت فيها قضايا شتى مما يحفل به هذا التاريخ وحضارته الخصبة.

ما هي هوايتك المفضلة ؟

هوايتي المفضلة هي القراءة التي أمزج فيها الليل بالنهار لأنها الوقود الذي يمكن الباحثين والمفكرين والكتاب من الاستمرار على أداء عملهم ... وثمة هواية أخرى ترفيهية هي الرياضة التي أتابعها بشغف.

أي الكتاب قد اثّر فيك ... واي كتاب ؟

يصعب تحديد ذلك ... ولكني استجابة للطلبات الملّحة من تلامذتي اخترت لهم قائمة كتب منتقاة للمطالعة تتجاوز الثلاثمائة كتاب عدداً ... اسميتها دليل الطالب الجامعي المثقف ... انتقيتها من بين آلاف الكتب التي اتيح لي قراءتها ... وكنت أقول لهم دائماً إن عشرين سنة من الدراسة الجامعية ، ومثلها من الجلوس وراء الشاشات التلفازية ، لن تخرّج مفكراً ولا باحثاً ولا كاتباً ولا مبدعاً ، وأن الذي يخرّج هؤلاء هو الكتاب ، أو ما نسميه ( المطالعة الخارجية ). فلما توقف طلبتنا وحتى معلمونا ومدرّسونا وأساتذتنا الجامعيون عن القراءة الخارجية ، أقبلنا منذ عشرين سنة أو ثلاثين على عصر الأمية المغلفة بشهادات لا قيمة لها على الاطلاق ...

ما هي نظريتكم في تفسير التاريخ المستخلصة من دراستكم للتاريخ العالمي والإسلامي ؟ هل هي دورات توينبية وخلدونية ، أم تقدّم متصاعد ومتفائل ؟

يمكن أن تجد إجابتي الشافية عن هذا السؤال في مؤلفاتي التالية : ( التفسير الإسلامي للتاريخ ) و ( مدخل إلى التاريخ الإسلامي ) و ( مدخل إلى الحضارة الإسلامية ). وفي أطروحة الدكتوراه التي كتبت عني في إحدى الجامعات المغربية بعنوان ( المداولة في أعمال عماد الدين خليل : دراسة في التنظير والإبداع ).

هل يعيد التاريخ نفسه ؟

نعم ... ولا ...

نعم بتياراته الأساسية التي تنبثق عن هموم الإنسان ومطامحه التي هي نفسها في كل زمن ومكان ... ولا ... في التفاصيل والجزئيات التي تتغير من عصر إلى عصر ، ومن بيئة لأخرى.

ما هو دور النخبة والصفوة في الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وتأسيس حياة جديدة بالاستفادة من عبر التاريخ ودراميته ؟

نحن نتعلم من القرآن الكريم ، أليس كذلك ؟ فاننا نجد كيف يضعنا كتاب الله في
أكثر من نصف مساحته في التاريخ لكي نتعلم من أنبيائه ونخبه المؤمنة والمبدعة ونؤسس حياتنا الجديدة في ضوء جهدهم المكافح ... ولكنه يحرّرنا من التاريخ في آيتين – بالكلمات نفسها – من سورة البقرة : الآية 134 {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }، وذلك من أجل أن نتمركز في قلب العصر ونتطلع إلى المستقبل.

ودائماً هناك ارتباط أكيد بين الماضي والحاضر والمستقبل ، والذين سعوا إلى فك
هذا الارتباط ، سواء على الطريقة الماركسية أو الطريقة الأمريكية في نظرية ( نهاية التاريخ ) ، آل بهم الأمر إلى الفشل الذريع ، وببعضهم إلى الخروج من التاريخ.

يقال إن عصر الأفراد قد انتهى تاريخياً ، وظهر عصر الشعوب والتكتلات والتقنيات والمؤسسات ما رأيك في هذه المقولة المحبطة أو المعيقة لظهور العبقريات الفردية ؟

كنت أقول لطلبتي دائماً أن هناك إشكالية كبرى في حياتنا الفكرية طالما قادتنا
إلى الجدل فيما لا مبرّر له ، وهي اعتمادنا على قاعدة ( إما هذا أو ذاك ) بدلاً من قاعدة ( هذا وذاك ). فلو أننا طبقنا هذه القاعدة على سؤالك هذا لوجدنا انفسنا ازاء خطيئة القول بانتهاء عصر الأفراد واستبداله بعصر الشعوب والتكتلات ... إلى آخره ذلك ان القطبين معاً ، سيظلان يعملان في قلب التاريخ ويصوغان معادلاته وحيثياته ... هذا وذاك ... وحيثما قلّبنا أنظارنا في الحركة التاريخية وجدنا انفسنا ازاء القدرة على التغيير التي يساهم فيها الأفراد المبدعون ، وتدعمهم في تنفيذها الكتل والجماعات ...

كيف نرغّب أجيالنا في دراسة التاريخ والاستفادة منه حضارياً لمعالجة الوحدة التي تعاني منها وكيف تقرأ تاريخ العالم قراءة مقارنة مع تاريخنا ؟

أجبت على سؤالك هذا بالتفصيل عبر الفصول الأربعة من كتابي ( مدخل إلى الحضارة الإسلامية ) الذي صدر عن المركز الثقافي العربي في الرباط بالمغرب ، فلا مبرّر لإعادة القول فيه.

هنالك دعوة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي ، ما هي المحددات المنهجية لذلك ؟ وهل الحلّ في كتابته كما هو وتحليل أسباب ما حدث فيه ذاتياً وموضوعياً ، وتمحيصه كما رأى الدكتور عبد العزيز الدوري ، أم إخفاء نقاط ضعفه وإبراز نقاط قوته ؟

هذا هو السؤال الآخر الذي أجبت عنه في كتابي ( حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ) الذي صدرت طبعته الجديدة عن دار ابن كثير في بيروت ودمشق قبل سنوات قلائل.

نجد أبنية ومؤسسات علمية تقرا التاريخ وفق روايات مذهبية وطائفية فتزداد الهوة بين مكوّنات الأمة ... ما الحل لتعدد الروايات وتناقضها احياناً ؟ وهل سنبقى أسرى للخلافات التاريخية والعالم قد تجاوز إلى حدّ كبير هذه الخلافات والحزازات ؟

يعاني العديد من أبناء هذه الأمة من مأساة ما يمكن تسميته " العبودية للتاريخ " فيصرفون همّهم كلّه باتجاه معاينة أحداث العصر الراشدي من مثل الردّة والسقيفة
والفتنة والجمل وصفيّن ... الخ ، وينسون المطلب الأشد إلحاحاً وهو أن يكونوا في
قلب العصر ، قادرين على المشاركة في إعادة صياغة المشروع الحضاري الإسلامي البديل ، قبالة الفراغ الذي أحدثه تساقط وانهيار المذاهب والعقائد والتجارب الوضعية والدينية المحرّفة.

هنالك الثوابت المتفّق عليها في كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أزاء سيل من المعطيات التاريخية القلقة التي تحتمل الخطأ والصواب ... افنحيل على الظني القلق ، ونتجاوز اليقيني الثابت ؟ أفنتشبث بالتاريخ ونتجاوز العقيدة والشريعة معاً ؟ لاسيما إذا تذكرنا أن التاريخ ليس علماً منضبطاً Exact Science وانما هو علم احتمالي ، اقصى ما يستطيعه هو مقاربة الحقائق لا مطابقتها ... وإذا أضفنا إلى هذا أن التدوين في تاريخنا جاء متأخراً عن وقوع الحدث ، منطوياً في الوقت نفسه على دور الأهواء والتحزّبات والمصالح والخوف من السلطان والطائفية الأمر الذي دفع العديد من المرويات إلى الانزلاق بعيداً عن مظان الصواب.

إن القرآن الكريم نفسه يحرّرنا مرتين من الارتباط الآسر بالتاريخ ، في آيتين من سورة البقرة وبالمفردات ذاتها : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }( البقرة : الآية 134 ، 141 ) ... ولكن الكثيرين منا لا يريدون أن ينتبهوا !!

ذلك أن الأخطاء التاريخية قدر لابّد منه ... وكل أمة تخطيء مراراً عبر تاريخها
الطويل ، لا بل أن خلق العالم والإنسان انطوى منذ اللحظة الأولى على احتمالات الخطأ ، تمييزاً له عن عالم الملائكة : {... قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ( البقرة : الآية 30).

فليس المهم هو أن نخطئ أو لا نخطئ كأمة على مستوى التاريخ ، ولكن المهم هو مساحة البعد الإنساني في تاريخ كل أمة ... وهو في تاريخنا ، وبكل المقاييس ، اكثر المساحات عمقاً وتجذّراً واتساعاً ، فهناك – على سبيل المثال لا الحصر – ظاهرة الفتوحات كحركة تحريرية رفعت شعار الانطلاق إلى العالم لإخراج الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ... هذه الحركة التي حملت قدرتها على الاستمرار لمدى قرون طويلة ، وتمكنت من التجذّر في جلّ الأماكن التي وصلت إليها ، لكي تتفوق – فيما عدا حالات استثنائية لا يقاس عليها – على كل صيغ التآكل والانكماش والفناء التي تعرّضت لها سائر محاولات الانتشار والسيطرة في التاريخ البشري.

وهناك ظاهرة التعامل مع " الآخر " التي تمثل الوجه الآخر لمسألة الفتح ، والتي تحتل أهمية بالغة في اللحظات الراهنة فيما يسمى بالنظام العالمي الجديد ، أو الموحد ، وإشكالية حقوق الإنسان ... إن ( السير توماس أرنولد ) ، وهو باحث إنكليزي مسيحي عكف أربعين سنة على تأليف كتابه المعروف ( الدعوة إلى الإسلام ) ، يتابع مفردات انتشار الإسلام وتعامله مع المغلوب على مدى ثلاثة عشر قرناً ونصف ، مستمداً
مادته من أدق المصادر والوثائق ، وهو يقول في كتابه هذا أشياء كثيرة جداً فيما نحن بصدده ، ولكننا نكتفي – ها هنا – باستنتاج واحد قد يكون كفاء القضية كلها ... إنه يقول إن تاريخ الدعوة الإسلامية لم يسجّل منذ لحظاتها الأولى حتى زمن الانتهاء من تأليف الكتاب في الربع الأخير من القرن قبل الماضي ، حالة واحدة أكره فيها غير المسلم على اعتناق الإسلام !!

وهنالك ما يمكن تسميته بالأممية الإسلامية التي شهدها هذا التاريخ. فلقد منحت كلّ الشعوب والجماعات التي انضوت تحت مظلة هذا الدين فرصتها في الحياة والتحقق والتعبير عن الذات ... لقد كانت فرصة مفتوحة بمعنى الكلمة ، سمحت حتى للعبيد والمماليك أن يواصلوا الصعود إلى فوق ويشكلوا دولاً ، بل انها مضت لكي تمنح غير المسلمين في بلاد الإسلام حقهم المشروع في المجالين المدني والديني على السواء.

ثم ان تاريخنا الحضاري صاغ نمطاً من المجتمعات لم تشهده ولن تشهده سائر التجارب الاجتماعية الأخرى ، ذلك أن تلك المجتمعات ظلت ، حتى في لحظات الانكسارات السياسية والعسكرية والحضارية ، أقل المجتمعات إدماناً للمخدرات ، وتعاطياً للحشيش والأفيون وسائر المغيبات الأخرى ، وشذوذاً جنسياً ، وهروباً جماعياً ، ودماراً أسرياً ، وإقبالاً على الانتحار ... وتبذلاً وتهتكاً واغتصاباً ... وأقلها في معدلات الجريمة على مستويي النوع والكم ، وفي رؤيتها التشاؤمية للحياة ومنظورها العبثي للوجود ، والذي يصل احياناً حد رفض كل الثوابت والمؤسسات الحضارية والروحية والاجتماعية والدينية في تاريخ الإنسان ...

القرآن الكريم يريدنا أن نعمل في قلب العصر ... في مواجهة التحديات ... ولكننا نؤثر في معظم الأحيان الانسحاب إلى الماضي واجترار الأحزان ، ونترك الساحات تخلو للخصوم والأعداء ...

قد يكون هذا ، من بين أسباب كثيرة اخرى ، أحد عوامل تفوّق الغرب علينا عبر قرون انسحابنا الحضاري ... وما هكذا أراد الإسلام أن نكون ...

هل أن نظرية ابن خلدون في قيام الدولة بتفعيل العصبية هي استقراء لواقع قيام الإمارات والكيانات المعاصرة له ؟ وكيف يستقيم ذلك مع نهي القرآن والحديث عن اتباع الهوى والدعوة إلى العصبية ؟ وكذلك مع حقوق الأقليات والاثنيات والشعوب التي تتكون منها الأمة الإسلامية ؟

نعم ، فان مما يؤخذ على ابن خلدون أنه استقى تأسيسات نظريته في قيام الدول وسقوطها من واقع قيام وسقوط الإمارات المعاصرة له ، أو تلك التي أتيح له القراءة
عنها ، ولكنه لم يكن يستهدف بالعصبية جانبها السلبي الذي نهى عنه رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ، وانما بعدها الإيجابي متمثلاً في قدرتها على الاستقرار ، وتمصير المدن ، وبناء الدول والحضارات ... ثم هو ربط عصبيته تلك بقوة الدين. فبدون الدين لن يكون لها القدرة على تحقيق المنجزات المذكورة.

ونحن نعرف كيف أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) امتدح الانتماء للقبيلة في حدوده المعقولة ، وكيف نادى خالد بن الوليد ( رضي الله عنه ) جيشه المسلم الذي تراجع أمام قوات مسيلمة الكذاب في معركة حديقة الموت : تمايزوا لكي نعرف بلاء كل حي ، وبهذا دفعهم للتنافس في القتال والاستشهاد ، كل تحت راية قبيلته حتى تحقق له النصر.

دعني استطرد قليلاً فأتحدث عن الاثنيات والشعوب التي أثرتها في سؤالك هذا.
إن حضارة الإسلام وتاريخه يقومان على قاسم مشترك من الأسس والثوابت
والخطوط العريضة ، بغض النظر عن موقع الفعالية في الزمان والمكان ، وعن نمطها وتخصصها ، فانها تنطوي في الوقت نفسه على حشد من الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه ، بحكم التراكمات التاريخية التي تمنح خصوصيات معينة لكل بيئة ، تجعلها تتغاير وتتنوع فيما بينها في صنوف من الممارسات والمفردات الثقافية.

إنها جدلية التوافق بين الخاص والعام ، أو ما يمكن عدّه اممية إسلامية تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم ، ولكنها تسعى في الوقت نفسه لأن تجمعها على صعيد الإنسانية. وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الماركسية التي سعت ، وبحكم قوانين التنظير الصارمة ، إلى إلغاء التنوع ومصادرته ، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أن تأكد زيفها وعدم قدرتها على التحقق تاريخياً ، وبمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي حتى قبل حركة ( البيرسترويكا ) والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأمية الماركسية من قبل الجماعات والأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة ، فيما حدثتنا عنه ( هيلين كارير دانكوس ) الخبيرة الفرنسية في شؤون الاتحاد السوفياتي ، في كتابها ( القوميات والدولة السوفياتية ) فأطالت الحديث.

إن مقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة ، في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وثوابتها وأسسها الواحدة وأهدافها المشتركة ، تتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية وواقعيتها في التعامل مع هذه الثنائية كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت بالقدرة نفسها من الانفتاح في الرؤية والمرونة في العمل.

لقد شهد عالم الإسلام – بموازاة التنوع السياسي – انشطة معرفية متمايزة وثقافات شتى على مستوى الأعراق التي صاغتها : عربية وتركية وفارسية وكردية وصينية ومغولية وبربرية وإسبانية وزنجية وأفغانية وسلافية ... الخ ، كما شهدت أنماطاً ثقافية على مستوى البيئات والأقاليم : عراقية وشامية ومصرية وسودانية ومغربية وإسبانية وبحر متوسطية وإفريقية وأوربية شرقية وإيرانية وكردية وتركية وتركستانية وصينية وهندية ، إلى آخره ... وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها بحرية ، وتعبّر من خلاله عن خصائصها وتؤكد ذاتها ، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية ، بدءً من قضية اللغة والأدب وانتهاء بالعادات والتقاليد ، مروراً بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة ، ولم يقل أحد إن في هذا خروجاً عن مطالب الإسلام التوحيدية ، كما أن أحداً لم يسع إلى مصادرة حرية التغاير هذه. وفي المقابل فان أياً من هذه المتغيرات لم يتحول – إلا في حالات شاذة – إلى أداة مضادة لهدم التوجهات الوحدوية الأساسية لهذا الدين.

الاستشراق ، ما له وما عليه بالنسبة لتاريخنا ، وما أبرز ما قدمه لنا المستشرقون في هذا المجال ؟

على مدى خمسين عاماً ، تعاملت مع الاستشراق قراءة وتدريساً وتأليفاً. وقد اتيح لي منذ أخريات خمسينيات القرن الماضي ، وحتى العقد الأوّل من القرن الحالي ، أن
اقرأ عشرات المصنفات التي أنجزها المستشرقون على اختلاف بلدانهم في أوربا غرباً وشرقاً ، وأن أدرّس مادة ( الاستشراق ) لطلبة الدراسات العليا ، وأناقش رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه التي تمسّ الموضوع ، في العديد من الجامعات العربية والإسلامية ، وأن أنجز جملة من المؤلفات ، محض بعضها للفكر الغربي والاستشراقي ، وخصص بعضها الآخر مقاطع وفصولاً عن هذا الفكر ، بلغ عددها جميعاً ثلاثة عشر كتاباً. وقد اتخذت هذه المؤلفات اتجاهين في الكتابة ، مضى أحدهما لكي ينقد ويفّند المعطيات الاستشراقية : ( دراسة في السيرة ، ابن خلدون إسلامياً ، حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ، دراسة مقارنة في منهج المستشرق البريطاني المعاصر : مونتكمري وات ، مدخل إلى التاريخ الإسلامي ) ، ومضى الآخر يتبنى ويحلّل الجوانب الموضوعية المضيئة من تلك المعطيات ( قالوا عن الإسلام ، الإسلام والوجه الآخر للفكر الغربي ، مدخل إلى الحضارة الإسلامية ، أصول تشكيل العقل المسلم ، نظرة الغرب إلى حاضر الإسلام ومستقبله ، المرأة والأسرة من منظور غربي ، القرآن الكريم من منظور غربي ، الفن والعقيدة ).

في البداية كنت أميل ، بسبب من قراءاتي الأولى ، إلى اعتبار الموروث الاستشراقي بشكل عام سيئاً بما كان ينطوي عليه من تحايل على الإسلام ، مكشوف حيناً ، ومغطى بخبث حيناً آخر ، وهو الأمر الذي اعتقد أن الكثيرين يشاركونني فيه ، بل إن عدداً غير قليل من الأوربيين أنفسهم أدانوا رفاقهم بسبب من إلحاحهم في التحامل على الإسلام قرآناً ونبياً وعقيدةً وشريعةً وحضارةً وتاريخاً.

والذي يقرأ الصفحات الخمسين الأولى من كتاب المستشرق الألماني بروكلمان ( تاريخ الشعوب الإسلامية ) ، أو معظم أعمال المستشرق الفرنسي اليسوعي الأب لامانس ، أو جوانب عديدة من مصنفات نولدكه ومارغوليوث وغيرهم ، يجد نفسه مرغماً على إدانة المعطى الاستشراقي المثقل بالتعصب والكراهية والتحامل وسوء الفهم ، بل وحتى الجهل بما يعتبره المسلم من بداهات هذا الدين.

ولقد وقفت طويلاً في مقدمة كتابي ( دراسة في السيرة ) الذي صدر في منتصف سبعينيات القرن الماضي ، عند شبكة من شواهد السوء بخصوص سيرة رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) وناقشتها ، مفنّداً إياها الواحدة تلو الأخرى. كما أني فعلت الشيء نفسه مع المستشرق البريطاني المعاصر ( مونتكمري وات ) في كتابه المعروف ( محمد في مكة ) ، رغم أنه يعد من أكثر المستشرقين موضوعية وحيادية ، وقبولاً
– ظاهرياً – للعمق الغيبي لعصر الرسالة ، بعد أن تلقيت تكليفاً من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية ، بإنجاز بحث عن منهج المستشرق المذكور في تعامله مع السيرة ضمن مجلدين شارك فيهما عدد كبير من المختصين بمناهج المستشرقين.

هذا هو أحد جانبّي الصورة ، وهنالك الجانب الآخر ، فان ما سبقت الإشارة إليه لم يمنعني من مواصلة المشوار في الموروث الاستشراقي لمتابعة أكبر قدر ممكن من مفاصله ومعطياته ، وأنا أتلقى بين الحين والحين تكليفاً من هذه المؤسسة أو الجامعة أو تلك ، للكتابة في الموضوع. كانت إحداها حول إنجاز مشروع عمل موسع يتضمن الشهادات الإيجابية لغير المسلمين ، بما فيهم المستشرقون ، بحق الإسلام قرآناً ونبياً وعقيدةً وشريعةً وعبادةً وسلوكاً وحضارةً وتعاملاً مع الآخر وواقعاً ومستقبلاً ، فضلاً عن الموقف من الأسرة والمرأة.

تفرّغت للعمل السنين الطوال عبر منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، وشمرت عن ساعد الجدّ ، ورحت أتابع ( الشهادات ) في عشرات الكتب التي صنّفها المستشرقون. وبمرور الوقت اخذ يتبيّن لي أن هؤلاء لم يبخلوا في الإدلاء بشهاداتهم الإيجابية بحق الإسلام ، بل إنهم في بعضها تفوّقوا حتى على بعض الباحثين المسلمين انفسهم في الكشف عن منظومة القيم المتألقة في هذا الدين ، ربما لأنهم يجيئون من خارج دائرة الإسلام ، فيمارسون الاكتشاف الذي يثير دهشتهم وإعجابهم ، بعد إذ لم يكن الإلف والمعايشة والاعتياد قد أطفأت الوهج.

كانت الشهادات الإيجابية على درجة من الوفرة بحيث ان المشرفين على المشروع عادوا فطلبوا مني الإيجاز بانتقاء ما لا يزيد عن بضع شهادات للرجل الواحد كي لا يتضخم الكتاب ويصعب تعامل القارئ معه.

أنجزت المهمة الثانية بصعوبة ، وصدر الكتاب عام 1992 م يحمل عنوان ( قالوا عن الإسلام ) ، ثم صدرت قبل سنتين طبعته الجديدة عن دار ابن كثير في بيروت ودمشق.

على أية حال – كنتُ أقول في نفسي – لقد تحقق التعامل العادل مع الموروث الاستشراقي ، وتم تناول الصورة بوجهيها : الأسود الكالح والأبيض المشع ، فالمؤرخ ليس شاعراً يهجو أو يمدح ، ولكنه باحث عدل يتوخى الوصول إلى الحقيقة بأكبر قدر من الموضوعية ، ولطالما رددت مع نفسي الآية الكريمة التي تنطوي على منهج عمل في الفكر والحياة : {... وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( المائدة : الآية 8).

البعض يعزي كل ما حلّ بالأمة من نكبات إلى الآخر فيما يسمى بالتفسير التآمري ، وآخرون يحملون شعوبنا أسباب تخلفها وتشرذمها ... ما هو التفسير المنهجي والمنطقي لبقاء أمتنا رهن تخلف وانقسام يستنزف طاقاتها ومواردها ؟ وكيف تدوم الهوة بين فئات أمتنا واقطارها ولا يكون هناك تطلع إلى مستقبل أفضل شأن أمم الأرض المتقدمة ؟

هذا أيضاً يقودنا إلى خطيئة القول بمبدأ ( إما هذا أو ذاك ) بدلاً من ( هذا وذاك ) حيث نجد المعنيون بهموم أمتنا المعاصرة ينقسمون – على غير وجه حق – إلى صنفين ، صنف يذهب إلى المدى في تفسيره التآمري للتاريخ ، وصنف آخر يرفض هذه المقولة رفضاً قاطعاً ويعلّق أسباب هزائمنا على ما صنعته أيدينا ... والحال أننا ، بلّم التوجهين إلى بعضهما يمكن أن نعثر على الجواب.

ذلك أن التفسير التآمري أمر قائم لا يستطيع أحد أن ينكره ، وقد فعل بأمتنا الأفاعيل منذ إسقاطه الخلافة العثمانية وحتى احتلاله العراق ، وإلى أن يشاء الله ... والقرآن الكريم يقولها بصراحة  {... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ( الأنفال : الآية 30) { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً *  وَأَكِيدُ كَيْداً*  فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} ( الطارق : الآيات 15-17).

ولكن إلى جانب هذا البعد هنالك بعد آخر ... هو نتاج ما صنعته أيدينا عبر تاريخنا الطويل من سوء ، مكن للتآمر أن يفعل فعله فينا ، فيما يذكرنا بمقولة مالك بن نبي
( رحمه الله ) ( القابلية على الاستعمار ). ولقد احصيت في الفصل الثالث من كتابي
( مدخل إلى الحضارة الإسلامية ) عشرين عاملاً ساهمت في انحلالنا الحضاري وخروجنا في نهاية الأمر من التاريخ ، وترك سفلة الخلق من الزعامات الغربية يضعون أقدامهم على رؤوسنا.

ويبقى أن هناك التحاماً بين التآمر الخارجي علينا وبين الأسباب التي تمهد السبيل لكي تؤتي هذه الشجرة الخبيثة ثمارها المنكودة.

في ضوء ما سمي بالربيع العربي ، كيف تقيم هذه التحولات والتفاعلات على ضوء تاريخ هذه الأمة وتطلعاتها ؟ أم هي مؤثرات الثورات الغربية كالثورة الفرنسية وغيرها ومبادئ حقوق الإنسان والعولمة الإعلامية ؟ هل من الضروري أن تصاحب التحولات حمامات دم ؟ وهل هذا هو الجهاد بمنهجيته الفقهية وملابساته التاريخية ؟

سؤالك هذا ينطوي على جملة أسئلة ، كل واحد منها يتطلب وقفة طويلة لإيضاح أبعاده. ولكني أقول باختصار إن ثورات الربيع العربي ليست تقليداً للثورة الفرنسية
وغيرها ، انما هي وعي الشعوب بذاتها ، ورفضها لأن تظل رؤوسها تحت أقدام الطواغيت وأبنائهم وأبناء أبنائهم من بعدهم. لقد حول هؤلاء الزعماء بلدانهم وشعوبهم إلى مزارع وإقطاعيات عرفوا كيف يستنزفونها حتى النخاع ، وداسوا على شعوبهم العقود الطوال ، وآن الوان لمجابهتهم وإخراجهم من الساحة بقوة الإرادة الجماهيرية التي إذا ما تحركت بالإخلاص المطلوب لقضيتها فلن يقف أمامها شيء. ولكن ليس بالضرورة أن تصاحب هذه التحولات حمامات دم ... ان هذا ما يريده الطغاة أنفسهم ، أما الثورات فقد سعت إلى أن يكون التغيير سلمياً ولكنها أرغمت إرغاماً على تغيير المسار ... وأما معايير الجهاد بمنهجيته الفقهية ، أي بمنطوق الفقه المقاصدي وفقه الموازين ، فقد كان من أشد الدوافع لتلك الثورات ، وقدّم إسناده المطلق لمطالبها.

وتبقى هنالك الإفرازات السيئة لما بعد الثورات ... وهذا أمرٌ متوقع ، كما أن قيام حركتي الردّة والتنبؤ كان أمراً متوقعاً في اخريات عصر الرسالة ، ذلك أن هناك قوى وجماعات ذات عمق تاريخي بعيد ، دمّرت مصالحها ، وسحقت مواقعها المتقدمة التي كانت تهيمن من خلالها على مقدرات الشعوب ، فهي إذن ستستميت في الدفاع عن هذه المصالح والمواقع ، وسيتطلب هذا زمناً قد يقصر وقد يطول لتصفية الحساب معها.

كباحث في التاريخ الحضاري ، ما أثر العولمة في تغييب تراثنا ومسخ هويتنا ، وما الحل لذلك ؟

العولمة ، بما أنها قد حوّلت العالم كلّه إلى نادٍ صغير أو قرية واحدة ، فقد زادت من التأثيرات الحضارية والثقافية للغرب على أمتنا ، فيما يسمى بالغزو الفكري ، وهو
غزو ذو عمق تاريخي بعيد ، قد يرجع إلى عدة قرون مضت. ولكن العولمة
باختزالها المدهش ، ومداخلاتها السريعة ، وارتباطها بعصر النظام العالمي الجديد ذي القطبية الأحادية التي تتزعمها أمريكا ، زادت بمعدل متواليات هندسية من تأثيرات الثقافة الغربية ، العلمانية ، المادية ، التي لا تعترف – في تعاملها مع الآخر – بمنظومة القيم الدينية أو الأخلاقية أو الإنسانية ... وهذا هو مكمن الخطر في العولمة. لكن هناك
– في المقابل – جانبها الإيجابي. إذ أن هذه العولمة مكنت وستمكن العالم الإسلامي من رفع خطابه ، أو بتعبير أدق ، مشروعه الحضاري إلى العالم كلّه عبر التقنيات الإعلامية التي تخاطب ملايين الناس ، شرط ألا نكتفي بخطاب أنفسنا باللغة العربية ، وأن تكون لنا فضائيات تتحدث بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والروسية
... الخ وحتى بلغات العالم الثالث.

إننا لن نستطيع أن نجاهد الغرب في المدى الزمني المنظور ، بقوة السلاح ، والذي يقول هذا قد يشكك بقدراته العقلية ... ولكننا نغزوهم بقوة فكرنا ... بعقيدتنا العليا ... وبمشروعنا الحضاري بعد إذ أخفقت كل مشاريعهم ، وتساقطت كل مذاهبهم ... ان الغربيين الذين ينتمون لهذا الدين يزدادون عدداً يوماً بعد يوم ، وهذا قد يحدث متغيرات ديموغرافية مؤثرة في الساحة الغربية ، وإن علينا الاعتقاد الجازم بانتصار هذا الدين في نهاية المطاف ، وإلا ما كنا مسلمين !!

كيف توفق بين التاريخ والأدب وفيم أبدعت من هذين التخصصين وكنت فيه متألقاً ؟

التاريخ له منهجه وأسلوبياته ، والأدب له منهجه وأسلوبياته ، والقراءة المتواصلة في السياقين هي التي تمنح الوقود للكتابة والإبداع فيهما ، فضلاً عن جملة من العوامل الأخرى لا يتسع المجال للحديث عنها. ولقد اتيح لي أن أنجز في التاريخ والحضارة ما يقارب الخمسة والعشرين كتاباً ، وفي الأدب ما يتجاوز الأربعين كتاباً ( تنظيراً ونقداً ودراسةً وإبداعاً في مجال المسرح والرواية والقصة القصيرة والشعر وأدب الرحلات وأدب الحوار ) ... وذلك منة يمن بها الله سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده ، والفضل له وحده سبحانه ...

يبقى أن هناك اتصال بين التاريخ والأدب فيما يسمى بالرواية التاريخية والمسرحية التاريخية اللتين تستمدان مادتهما الأساسية من وقائع التاريخ.

لكثير من الكتاب نظرة للمرأة ولك كتاب في هذا المجال. ما هي رؤيتك لدور المرأة في الحفاظ على القيم وتأسيس الحضارة الخاصة بنا.

دور المرأة قد يكون أكثر فاعلية من دور الرجل في الحفاظ على قيمنا ومشروعنا الحضاري ، لأنها المحضن الأساس في تخريج الأجيال الفاعلة في الحياة الإسلامية ؛ ولأن ضياعها يعني تفكك هذه الحياة وإبحارها في الاتجاه المعاكس الذي أراده لها الله سبحانه وتعالى  {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } ( النساء : الآية 27).

إن الغربيين بعد إنكارهم لمفردات المشروع الإسلامي بخصوص المرأة ، عادوا بعد كفاح طويل فأذعنوا لمقولاته ، في قضايا الطلاق والإنجاب والتربية الأسرية ... الخ. ولطالما تساءل المرء : أيهما اكثر انسجاماً وتوافقاً مع قضية المرأة والأسرة : هندسة الإنسان أم هندسة الله الذي هو أدرى بمن خلق ، والذي هو بكل شيء خبير ؟

وبقراءة متأنية لما شهده ويشهده الغرب عبر القرنين الأخيرين ، وبسؤال لحشود النساء اللواتي انتمين لهذا الدين في مختلف الأقطار الغربية ... سيتبيّن الجواب !!

هل تتابع المستجدات الفكرية والفلسفية في عالم الحداثة وما بعدها وخاصةً في قراءة التاريخ وهل أدى بك ذلك إلى مراجعات وتصويبات ؟

نعم ... انني على تواصل في مجال القراءة مع المستجدات الفكرية والفلسفية في عالم الحداثة وما بعدها ، ودائماً كنت أقول بخصوص الحداثة النقدية ، ان علينا كأدباء إسلاميين أن نفك الارتباط بين التقنيات النقدية الصرفة للحداثة ، تلك التي وضعت معايير صارمة للتعامل مع النصّ الإبداعي ، وبين خلفياتها الفلسفية والفكرية الضالة التي صنعها شذاذ الآفاق والسلوك من المتألهين في الغرب ، يهوداً ونصارى ، والتي أعلنوا فيها الحرب على الله ، والدين ، والقيم ، والثوابت المتفق عليها في عالم الفنون والآداب ، وبهذا نكون قد أفدنا من الكشف الغربي المدهش ، وتجنبنا خبثه وسيئاته ، فازددنا أصالة وخصوصية.

ما رأيك في ما كتبه الحداثيون عن النصّ القرآني ومزاعمهم في تاريخيته ... وكثير من الكتاب يطرحون إشكالية اللامفكر فيه في تراثنا وخاصةً قضايا الغيب ... هل سيبقى هذا الميدان مغلقاً ، أم يمكن أن يؤتى فيه بالجديد ؟

سأجيبك بالإيجاز المطلوب من خلال خبرتي الشخصية مع الحداثة والحداثيين ...

في عام 2008 م على ما أذكر أتيح لي أن أطلع على حلقة من برنامج ( الاتجاه المعاكس ) في قناة الجزيرة الفضائية ... كان محمد أركون أحد طرفي الحوار ... دققت في ملامحه فوجدته كالطفل الخائف المذعور ... يتراجع عن رأيه بمجرد أن يجابه بموقف حازم من الطرف الآخر ... يعتذر ... يتلكأ ... وكان يعتمد ما أسميه باللغة الثالثة في طرحه ... خليط من الألغاز والمعميات ، وكأن اللغة العربية عاجزة عن نقل افكاره بالوضوح المطلوب.

قلت في نفسي : هذا هو إذن أحد أعمدة الحداثة الإسلامية في القرن العشرين ... تشويه مقصود لكل ما هو إسلامي أصيل ... عكس للرؤية بزاوية 180 درجة بين تأسيسات هذا الدين العظيم وبين ما يريده أن يكون عليه الحداثيون !!

لم استغرب هذه الجملة من النقائض والترّهات الفكرية التي طرحها الرجل والتي سبق وأن ملأ بها بحوثه ومؤلفاته ... إذا كان الرجل يستمد جذور أفكاره المعوجة هذه من أستاذه
( فوكو ) الذي اتهم في بولندة بالشذوذ الجنسي ، ثم ما لبث أن توفي بمرض الإيدز ، فلابّد أن ينعكس ذلك على منظور أركون الفكري ... وإذا كان أستاذه الآخر الفيلسوف الألماني ( نيتشه ) ، الذي أعلن عن موت الإله ، قد انتهى به المطاف إلى مستشفى الأمراض العصبية ، فلا يستغرب هذا الإفراز المرضي من تلميذه الفكري ( اركون ).

قبل ذلك بخمسة عشر عاماً ، أتيح لي أن التقي عرضاً بحداثي مصري استدعي للمشاركة في أحد المؤتمرات في المغرب ... كان يدعو في كل حوار يجمعه مع بعض المشاركين ، إلى القول بأنه لا يوجد شيء اسمه ( حضارة إسلامية ) على الاطلاق ... وانما هي مجموعة من الاقتباسات الفجّة عن الحضارة اليونانية ، وبأن العقل المسلم لم يقدّم أو يبتكر أو يضيف أي شيء على الاطلاق لما سبق وأن قدّمه العقل اليوناني ... كان يرفض الحوار وينقفل على قناعاته الخاصة ... فقررت أن اقرأ بحثه الذي سيلقيه في المؤتمر ... فوجئت بأنه ليس بحثاً على الاطلاق ، ولا يمت للأصول الأكاديمية المتبعة في كتابة البحوث بأية صلة ... مجموعة من الشتائم الرخيصة التي صبّها على رؤوس الإسلاميين ... واستدعاء للشرطة والبوليس في ضرورة ملاحقتهم ، وتضييق الخناق عليهم ، واستئصالهم من الوجود ... الأمر الذي دفعني إلى الشك بأن هذا الدكتور الحداثي مبعوث من المخابرات المصرية يومها إذ كيف يبرّر لنفسه ، وهو الأستاذ الجامعي ان ينجرف إلى ما لا يفعله السوقة وأراذل الناس ؟

في عام 2011 م شاءت الظروف ان التقي عبر مؤتمر في اسطنبول بحداثي ثالث ... مؤلف مصري كبير ... كانت كتبه منذ عقود تترى على الناس ... بالتناقضات الحداثية نفسها ... وبالغطاء الفلسفي المخادع الذي يعتّم الرؤية على المتلقّين ... وبمحاولة إنزال كتاب الله سبحانه وتعالى من عليائه ، ووضعه كنص أدبي لدراسة الناس ، بعد تجريده من قدسيته وتميّزه ، باعتباره قادم من عند الله الذي يعلم من خلق وهو سبحانه بكل شيء خبير.

تابعت محاضرته البائسة على مجموعة الطلبة الذين دعوا لسماع محاضرات المشاركين فإذا به يبدأ كلامه بالهجوم على الفكر الغيبي ، وإدانة تشبث المسلمين بالغيبيات ، واعتبار ذلك سبب الأسباب في تخلفهم عن اللحاق بركب الحضارة الغربية المتفوّقة ... ويستمر يقدّم هذه الترّهات بانفعال شديد ، حتى إذا انتهى من كلامه طلبت مناقشته وبدأت حديثي بأنه يمارس تضليلاً للطلبة الأتراك المساكين وأنه يناقض تأسيساً قرآنياً للعقيدة الإسلامية باعتبار الايمان بالغيب هو نقطة الانطلاق ، ثم تلوت الآيات الأولى من سورة البقرة : {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...} ( الآيات 1-3 ).

وقلت بأن ذلك يتوافق مع دعوة القرآن إلى الالتحام بالكتلة ، بفيزياء العالم ، فيما يزيد عن ألف آية ... وفيما يدفع المسلمين ، وقد دفعهم فعلاً : إلى تلك الحركة العلمية التي كانت أساس حضارتهم ، والتي قدمت للحضارة الغربية تأسيساتها الأولى التي
انبنت عليها ... ويوم أن ارتخت أيديهم عن الإمساك بالكتلة ، فيما هو نقيض الموقف القرآني ، تركوا الفرصة للآخرين بأن يتفوقوا عليهم ويسوموهم سوء العذاب ... فأية علاقة إذن بين تخلّف المسلمين وبين ايمانهم بالغيب ؟ و ...

قبل أن أتمّ كلامي رأيت الرجل وقد ارتبك ، وأصفّر وجهه ، وراح يصرخ : اتريد أن يقتلني خصومي ... وان ألاحق في كل مكان ! فما كان مني إلاّ أن أهدئ من روعه ، واقول له إننا هنا في حلقة نقاش علمي وليس في حلبة ملاكمة ... لقد ضلّلت بكلامك هذا حشوداً من الطلبة ، فأردت أن أوضّح لهم الحق.

كلهم سواء هؤلاء الحداثيون ... في تناقض أفكارهم ... في نفي أحدهم الآخر ... في اهتزاز شخصياتهم ... وفي حقدهم الذي لا حدود له على كل ما هو إسلامي أصيل في هذا العالم.

الأنسنة والعقلنة والترخنة ... فأي شيء أكثر من هذا ، وابشع منه في تنزيل كتاب الله المتعالي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... إلى اعتباره نصّاً أدبياً وضعياً قابلاً للنقد والتفكيك والتشريح ؟!

الأنسنة حيث يجرد كتاب الله من بعده الغيبي ومن ارتباطه بالوحي ... والعقلنة حيث يحكم العقل البشري النسبي القاصر المحدود ذو الأهواء والنزعات في النص الإلهي ويعبث بمعطياته ... والترخنة حيث يسجن هذا النص المتعالي على الزمن والمكان في دائرة التاريخ !!

تلك الرؤى التي لو قلمت على الحق لاستمر بها الزمن ، ولكنها بأباطيلها لم تصمد إزاء موجات أخرى كانت ولا تزال يضرب بعضها بعضاً ، ويسقط بعضها بعضاً ، لأنها في حقيقتها لا تعدو أن تكون شبكة متهافتة من الظنون والأوهام تسعى لأن تستعيد الناس باسم العلمية والأسلوب العلمي : {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } ( سورة النجم : الآية 23 ).        وصدق الله العظيم