حوار مع الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل
أجراه الأخ أحمد مولود / جريدة البصائر
سؤال : في الستينات سافرتم إلى القاهرة لمواصلة دراستكم العليا .. ما هي الدوافع التي كانت وراء تخصصكم في التاريخ الإسلامي ؟
جواب : عشقي للتاريخ بوصفه مدرسة حياة كبرى نتلقى منها التعاليم .. إشارات المرور في حاضرنا .. والرؤية الأشد نفاذا لمستقبلنا .. لقد محّض القرآن الكريم أكثر من نصف مساحته للحديث عن الماضي أي التاريخ ، واستخلاص السنن والنواميس التي يتشكل بمقتضاها ، وهذا يؤشر على القيمة البالغة للتاريخ في حركة الأديان وفي حياة الأمم والشعوب.
سؤال : لماذا تستقطب مسألة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي اهتمام المفكرين المسلمين المعاصرين من خارج دائرة المؤرخين كسيد قطب ومالك بن نبي وعلي شريعتي ومحمد قطب والقرضاوي ؟
جواب : كان ذلك في خمسينيات القرن الماضي قبل أن تظهر للوجود داخل دائرة المؤرخين أية دعوة جادة لإعادة كتابة ، وإن شئت قراءة التاريخ ، وكانت محاولة مفكرين وعلماء كسيد قطب وصادق عرجون ومالك بن نبي تأكيداً على أهمية المسألة بسبب ما اعترى الموروث التاريخي الإسلامي من دَخل ، وجاء من بعدهم محمد قطب وعلي شريعتي والقرضاوي .. ولكن حدث بين المجموعتين أن تنادت بعض المؤسسات الأكاديمية لتنفيذ المحاولة ، وقطعت مسافة في الطريق ، ثم ما لبثت أن توقفت ربما بسبب العوائق المالية وشتات الكوادر المتخصصة وتبعثرها في البلدان .. وقد تحدثت عن ذلك في كتابي المتواضع ( حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ) الذي صدر في منتصف ثمانينات القرن الماضي عن دار الثقافة في الدوحة ثم أعيد طبعه في دار ابن كثير بدمشق قبل سنة واحدة.
سؤال : أكدتم في كتابكم ( التفسير الإسلامي للتاريخ ) الصادر في عام 1975 م أن عدداً كبيراً من عروض القرآن التاريخية ، وان جاءت تسميتها أحياناً بالقصص أي الحديث عن الماضي ، تخرج عن الإطار الفني للقصة وبهذا تكتسب بعدها التاريخي المجرد .. لماذا تحمل الأخبار الواردة في القرآن تسمية القصة على الرغم من صحّتها ووقوعها فعلاً ؟
جواب : لأن فعل ( القصّ ) الذي اشتقت منه مفردة ( القصة ) يعني الاخبار عن الماضي بالمفهوم التاريخي الواقعي الصرف .. ويجب أن أشير هنا إلى أن التعميم ينطوي
على خطأ لا يمكن التسليم به .. بمعنى أن النصّ القرآني انطوى على نمطين من
القصّ أحدهما خارج نطاق القصة بمفهومها الفني ، والآخر استكمل سائر الأسباب الفنية لها .. وهنالك العديد من الدراسات أنجزت حول الموضوع ، وقد أتيح لي قبل سنوات أن أناقش رسالة ماجستير في كلية آداب جامعة الموصل تتناول قصة يوسف من زاوية فنية صرفة ، وقد حصل صاحبها على درجة الامتياز.
سؤال : كتبتم في مقدمة كتابكم ( دليل التاريخ والحضارة في الأحاديث النبوية ) أن الأحاديث النبوية الشريفة تنطوي " على منظومة خصبة من مفردات المعرفة التاريخية ،
وتقدم الإجابة على العديد من التساؤلات التي يثيرها هذا الفرع الهام في دائرة العلوم الإنسانية ، وهي بهذا تؤكد معطيات القرآن الكريم في هذا المجال ، وتوضحها وتضيف عليها " .. كيف تساعد السنة النبوية على كتابة تاريخ ما قبل الإسلام ؟
جواب : يجب أن نعترف ـ أولاً ـ أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن مؤرخاً ، وأن استدعاءه للتاريخ بين الحين والحين ، انما هو لتلّقي التعاليم ومنحها لأصحابه .. وبالتالي فهو لم يقم بتغطية شاملة لتاريخ ما قبل الإسلام ، بالمفهوم الأكاديمي ، وانما قدم إضاءات موجزة عن هذه الواقعة أو تلك ، وعن هذا النبي أو ذاك .. وبالنظر لكون العديد من هذه الاضاءات تحمل مصداقيتها بإحالتها على ضوابط علم الحديث ، وبالنظر لكونها تمثل تفسيراً للمعطيات القرآنية بهذا الخصوص ، فانها ستقدم للبحث في تاريخ ما قبل الإسلام خدمة بالغة بملء بعض الفجوات بأخبار يقينية لا يخترقها الشك ..
سؤال : دعوتم في بعض مؤلفاتكم : ( في التاريخ الإسلامي : فصول في المنهج والتحليل ) ( في النقد الإسلامي المعاصر ) إلى تضييق القيود الأكاديمية في كتابة وتدريس التاريخ ، وأكدتم على أن ذلك لا يمثل " رغبة شخصية في الحصول على مزيد من المتعة الروحية في مجالات النشاط التاريخي المعروض بهذا الأسلوب الحي ، وانما هو أمر واقع حتمي تفرضه طبيعة الوجود التاريخي نفسه " .. فهل يعني ذلك أنكم تريدون تحرير التاريخ من ( سجن ) العلوم الاجتماعية ، وإعادته إلى حقل الآداب ؟
جواب : أبداً .. خاصة إذا تذكرنا أن التاريخ وعلم الاجتماع صنوان يجمع بينهما هم واحد هو دراسة وتحليل حركة المجتمعات عبر الزمن .. وإذا تذكرنا أن التاريخ سيفقد الكثير من ( علميته ) إذا سحبناه إلى حقل الآداب .. وانما كان القصد من دعوتي تلك هو أن يتحقق المؤرخ بما سبق وأن سماه ( سيد قطب ) : ( المعايشة التاريخية ) ، وهذه بالنسبة لتاريخنا الإسلامي بالذات ، ولفتراته المبكرة على وجه الخصوص ، ضرورة من الضرورات المنهجية إذا أردنا ـ فعلاً ـ أن نحقق مقاربة أكثر للخبرة التاريخية .. وهذا ما فعلته في كتابي المبكر ( ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز ) الذي صدر عام 1970 م ، وما فعله العقاد في ( عبقرياته ) ، وما فعله خالد محمد خالد في ( رجال حول الرسول ) ورباعيته عن الخلفاء الراشدين ( رضي الله عنهم ) .. بل هذا ما فعله ( سيد قطب ) نفسه في مقدماته الخصبة التي كان يمهد بها في ( الظلال ) لتفسير السور المتعلقة بالوقائع الكبرى لعصر الرسالة ، من مثل سورة الأنفال التي تحدثت عن معركة بدر ، وسورة آل عمران التي تحدثت عن معركة أحد ، وسورة الأحزاب التي تحدثت عن معركة الخندق .. وغيرها ..
إن المعايشة التاريخية بالنسبة للمؤرخ المسلم تستدعي جملة أمور ولعل أبرزها استحضار البعد الروحي في الواقعة التاريخية ، والخبرة الروحية في حياة القادة والعظماء .. وهي مسألة يكاد المؤرخ الغربي ، والعلماني عموماً ، لا يمسها أو يقترب منها كما هو معروف.
سؤال : احتفل العالم الإسلامي في الشرق والغرب بمرور ستة قرون على وفاة العلامة ابن خلدون ( 1332 ـ 1406 ) مؤسس علم العمران البشري ، وقد خصّصتم له كتاباً بعنوان ( ابن خلدون إسلامياً ) .. ما هي أبرز السمات الإسلامية لفكر ابن خلدون ؟
جواب : أنه جعل الدين عنصراً أساسياً في قيام الدولة ، جنباً إلى جنب مع ما سماه ( بالعصبية )، كما أنه جعله عنصراً أساسياً في معطياته الخاصة عن نظرية المعرفة والعملية التربوية في الباب السادس من مقدمته ، هذا إلى أن تأثير النصّ القرآني واضح تماماً في العديد من مبادئه التي استخلصها وهو يتحدث عن قوانين الحركة التاريخية .. ولن يتسع المجال لاستعراض هذه المبادئ ، كما لا يتّسع للوقوف عند دور الدين في مقدمته في صيرورة الواقعة التاريخية .. وهو حتى عندما يتعامل مع العديد من وقائع التاريخ الإسلامي ينطلق من زاوية رؤية إسلامية واضحة تماماً.
ولقد أنجزت كتابي المذكور ( ابن خلدون إسلامياً ) لتأكيد هذه الحقائق ، وللردّ على كل أولئك الباحثين والمؤرخين ، سواء من الغربيين أو من بنا أبناء ابن تالل ذأبناء جلدتنا من العلمانيين والماركسيين الذين أرادوا انتزاع ابن خلدون من بيئته الإسلامية ، وتهجينه بالحكم على مقدمته بأنها لم تتأثر بالبعد الديني ، وهو أمرٌ لم يخطر لابن خلدون نفسه على بال.
سؤال : انشغلتم في الأعوام الأخيرة بتطوير مشروعكم الفكري المتميز ( الفقه الحضاري ) فقدّمتم منهجاً جديداً لدراسة الحضارة الإسلامية ، متجاوزاً في ذلك المنهج التفكيكي في قراءة تلك الحضارة .. ما هي أبرز معالم هذا المنهج ؟
جواب : لحسن الحظ فان جانباً من هذا المشروع قد برز إلى النور في كتابي ( مدخل إلى الحضارة الإسلامية ) الذي صدر هو وصنوه ( مدخل إلى التاريخ الإسلامي ) عن المركز الثقافي العربي في الرباط وبيروت قبل سنة واحدة. وقد أريد للكتاب أن يكون مقرراً منهجياً معتمداً للتدريس في الجامعات العربية والإسلامية ، وقد اعتمد فعلاً في عدد من هذه الجامعات من مثل ( الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا والكلية الأوربية للدراسات الإسلامية في فرنسا وكليتي الآداب والتربية بجامعة الموصل في العراق وجامعة الزرقاء الأهلية في الأردن والتي قامت بترجمته إلى الإنكليزية .. ) وربما غير هذه وتلك من الجامعات.
بني الكتاب على منهج جديد في التعامل مع الحضارة الإسلامية يقوم على تجاوز
المنهج التفكيكي المعتمد في المعاهد والجامعات العربية والإسلامية ، والذي يقطع شخصية الحضارة فتضيع ملامحها الأساسية باسم الضرورات الزمنية أو التخصصية أو المنهجية ، حيث يدرس تاريخ العلوم أو الفكر في سنة ، أو مرحلة ، والنشاط الاقتصادي والعمراني في سنة أخرى ، والنظم الإدارية في سنة أو مرحلة ثالثة .. إلى آخره .. وهكذا تصير الحضارة الإسلامية لهاثاً وراء مبررات الجزية ، وركضاً وراء قوائم الضرائب ، ومتابعة للمحتسب وهو يتجول في الأسواق ، واستعراضاً وصفياً لمنظومة الدواوين ، وعرضاً للصراع على المناصب الكبرى ، وتصنيفاً فجاً للعلوم ما بين نقلية وعقلية .. إلى آخره ..
وبذلك يتخرج الطالب وهو لا يملك معرفة معمقة بشخصية حضارته الإسلامية ، وعناصر تميّزها ، ولا الاعتزاز بها ، رغم البعد التربوي للنشاط الأكاديمي ، وقد يتمخض عن ذلك كله نتائج معاكسة حيث يصير تدريس الحضارة سلاحاً نشهره ضد أنفسنا. هذا إلى ما يترتب على المنهج التفكيكي من فك الارتباط بين العقيدة الإسلامية وبين معطيات الحضارة الإسلامية نفسها ، كما أنه يقود إلى نتائج مضلّلة كتلك التي قال بها فيليب حثي في ( تاريخ العرب المطول ) ، وعدد من الباحثين والمستشرقين ، من أن الحضارة الإسلامية لا تعدو أن تكون ( قطع غيار ) لملمت من الحضارات الأخرى اليونانية والهلينية والرومانية والبيزنطية والفارسية والهندية ، ووضع عليها رداء خارجي يحمل شعار ( الحضارة الإسلامية ).
وتجاوزاً لذلك كله سعى ( مدخل إلى الحضارة الإسلامية ) إلى اعتماد منهج
شمولي يستهدف متابعة الخصائص الأساسية للحضارة الإسلامية كشخصية مستقلة ، ويضع اليد على شبكة التأسيسات التي وضعها كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) للفاعلية الحضارية ، ويتابع معطيات هذه الحضارة ووظائفها الأساسية وملامحها المتميزة عبر مراحل نموّها وتألّقها .. ويستقصي ـ بالمقابل ـ العوامل التي قادتها إلى التدهور وفقدان الفاعلية ، والشروط التي تمكنها من الانبعاث كرة أخرى ، واحتمالات المشاركة العالمية في المصير.
ينقسم ( المدخل .. ) إلى أربعة فصول ويؤكد على ضرورة إعطاء الحضارة الإسلامية على مدى سنوات أو مراحل الدراسة الجامعية الأربع ، وفق الترتيب التالي :
السنة أو المرحلة الأولى : أصول الحضارة الإسلامية : شبكة الشروط التأسيسية في كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعطيات عصر الرسالة.
السنة أو المرحلة الثانية : نموّ الحضارة الإسلامية : المعطيات ، الوظائف ، الخصائص.
السنة أو المرحلة الثالثة : تدهور الحضارة الإسلامية : تحليل للعوامل الداخلية والخارجية.
السنة أو المرحلة الرابعة : واقع الحضارة الإسلامية ومستقبلها ، واحتمالات المشاركة العالمية في المصير ، وتحديات التكنولوجيا والمعلوماتية ، والنظريات الأكثر حداثة حول ( نهاية التاريخ ) و ( صراع الحضارات ) ، وصيغ التعامل مع تحديات ( العولمة )
و ( النظام الدولي الجديد ) وشروط ( المشروع الحضاري البديل ).
سؤال : ما هي مشاريعكم القادمة ؟
جواب : صدرت لي قبل أسابيع قلائل ، وأيضاً عن ( المركز الثقافي العربي ) في الرباط وبيروت ، رواية بعنوان ( السيف والكلمة ) توظف روائياً واقعة الغزو المغولي لبغداد ، وقد عملت فيها على فترات متقطعة ما يزيد عن السنوات العشر ، واعتبرها أكثر أعمالي الأدبية قرباً إلى نفسي ، لأنني سعيت إلى أن أنفذ فيها تقنيات جديدة على مستوى اللغة وضمائر المتحدثين والحوار وبناء الشخصيات والترميز الذي يتجاوز التجريد ويتشكل بقوى الحياة ودوافعها ..
وهنالك قيد النشر في ( دار ابن كثير ) بدمشق مسرحيتان جديدتان لي من ذوات الفصول الأربعة ، إحداهما بعنوان ( التحقيق ) وتتناول واقعة مأساة المسلمين في الأندلس بعد سقوط غرناطة ، والأخرى بعنوان ( الهمّ الكبير ) تتحدث درامياً عن شخصية الناصر صلاح الدين.
وعن ( دار وائل ) في عمان بالأردن سيصدر لي قريباً ثلاثة أعمال كنت قد تعاقدت حولها منذ سنتين وهي ( مذكرات جندي في جيش الرسول ) و ( الطريق إلى فلسطين ) و ( كتابات معاصرة في السيرة النبوية ).
مشاريعي القادمة قد تكون إصدار أكثر من كتاب ينطوي كل منها على جملة من المقالات المركزة الموجزة التي تتابع وترصد وتحلّل ما يجري في حياتنا الراهنة عبر سياقاتها كافة ، أسوة بما فعلته في ( آفاق قرآنية ) و ( مؤشرات إسلامية في زمن السرعة ) و ( في الرؤية الإسلامية ) و ( الرؤية الآن ) والتي صدرت عبر الثلاثين سنة الماضية.
ولكن همّي الأساس سينصب على البدء في كتابة ( سيرتي الذاتية ) برؤية انطباعية تتجاوز المباشرة والعمل التسجيلي ، فيما سأحشد له جهدي عبر السنوات القادمة بمعونة من الله سبحانه وتعالى ..