تنطوي الخبرة التاريخية على قيمة بالغة، ليس في السياقات الأكاديمية فحسب، وإنما في واقع الحياة. فما ثمة معلم لمسيرة الأمم والجماعات والشعوب كالتاريخ، وهو بما يتضمنه من تجارب الصواب والخطأ، وحشود السنن والنواميس، يمكن أن يغدو دليلاً مناسباً للإفادة من الخبرات الإيجابية وتجاوز تكرار الخطأ الذي يجيء في كثير من الأحيان"أكبر من الجريمة"إذا استخدمنا عبارة السياسي الفرنسي المعروف (تاليران).
والتاريخ كلّه تاريخ معاصر، كما يقول الفيلسوف الإيطالي (بنيديتو كروتشه) مشيراً إلى التأثير البالغ للتجربة التاريخية على واقع الجماعات والشعوب، وإلى إمكان تجدد الوقائع ذاتها بمجرد إن تتهيأ لها الشروط التي تشكلت أول مرة.
ومنذ منتصف القرن الماضي ازداد اهتمام الغربيين بالدراسة التاريخية، وأخذت تتكشف لهم أكثر فأكثر أبعادها الفكرية والسياسية والتربوية، وضرورتها لمسيرة الشعوب والأمم، من أجل تجاوز خطيئة البدء من نقطة الصفر، والاستهداء بالخبرة التاريخية.
وبمرور الوقت أخذت تتزايد نداءات المفكرين بضرورة الرجوع إلى التاريخ، وراحت التجارب الأوروبية المتلاحقة في عالمي الفكر والواقع تمدّ بجذورها إلى الماضي باحثة عن المبررات والحجج والأسانيد، متطلعة إلى الصيغة الأكثر ملائمة للحاضر والمستقبل. وليست تجارب الثورات الفرنسية، وادعاءات تفوق الرجل الأبيض، والشوفينيات الألمانية والإيطالية، والاشتراكيات الطوباوية، والماركسية - اللينينية، إلا شواهد على مدى الارتباط بين الفكر والتجربة المعاصرتين وبين الرؤية التاريخية.
في ختام سورة يوسف نقرأ هذه الآية الكريمة: )لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون( (سورة يوسف: 111). وهي تضعنا قبالة التعامل مع التاريخ بكل ما ينطوي عليه هذا الفرع المعرفي من شروط أساسية، فالسرد التاريخي في المنظور القرآني يستهدف البحث عن العبرة؛ أي الجوهر والمغزى، وهو خطاب موجه لذوي البصيرة القادرين على سبر هذا المغزى والإفادة منه في واقع حياتهم والتخطيط لمستقبلهم، وليس لذوي المصالح القريبة والتحزّبات والأهواء. وهو-أيضاً- معطى يحمل مصداقيته المنبثقة عن علم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي وسع كل شيء علماً. فهو –إذن- ليس رجماً بالغيب، وهو ليس أهواء وظنوناً، كما هو الحال في العديد من الأعمال التاريخية"الوضعية".